مقالات

سانية البئر تتكيء وتغيب

 

بقلم -د/علي حافظ القرني
في زمنٍ كان الجميع يراها من أولويات العيش ، لاسيما وهي تحمل في جوفها معنى الحياة ، تحدِث في مَقدَمِها منبها يسمعه الغارب ويأنس به المقارب ، تدور في محيط مزهر ، لا يتداخل مع حدودها شيء آخر ، تفرض على الجميع الانتظار ، وتهز عند خروجها الأنظار ، محملة بماءِ رقراق بين أبعاد لا تكاد تذكر ، لكن صوت ماتحمله توقظ الخاشع فيربو بجِنانه الغناء ، ويبهر رغم قلة فيضه ما أنتج من ثمار ، فتراه يشرك الطير والحمائم بخير عطائه ، لتكون سانية البئر تجسيدا لذلك الشيخ أو الشاب أو الرجل الذي حملها لتعمل ، وصنعها لتكون ، وأوردها لتحمل ماءها الصافي من بين أحضان البئر المتهدمة..
هي تتكيء الآن فعلا على جدار متحف تراثي ، وهي تصمت بعد أن كانت تثير بصوتها كل بعيد ، لكنها بلغت من اليأس ما يحمل صمتها فتطبطب على ذاتها بذكرى ذلك الزمن في خلد الأجيال ، فترضى بأن تظل صامته ويكفيها مرور المهتمين وحديثهم عنها.
وفي المقابل فذاك الشيخ لايرضى بما ترضى به السانية فلديه لسانٌ حكيم ، ورؤية خبير ، وبصيرة رشيد ، تراه يقلب سمعه وبصره في عالمٍ يبدو غير عالمه ، وجيلٍ تجاوز حدود معالمه ، فإن تكلم نظروا إليه بعين الغريب ، وإن حضر لم يفسح له أحد المكان ، فآثر الصمت ليترقب ويتذكر بحسرةٍ تلك السنين التي كان يرى فيها الشاب يجل الكبير ويوقر المسن ، ويعين الصغير .. يتحدث مع نفسه ويتساءل بهمس ، هل الإنسان يبحث عن الحضارة والتطور رغم معطياتها الباهرة متجاوزا معنى أن الإنسان بتراثه وعمقه الذي أتى منه، أم ينسج ثوبا مختلفا يبعده عن قيم الدين ومباديء الإنسانية؟
لنشاهد الكثير ممن حملوا هذا النماء وصنعوا هذه العزة ، وبنوا جيلاً طموحا يؤثرون أن يتواروا خلف جدار الزمن ، فلا جيلَ يذكر لهم مجدا ، ولا يحمد لهم حاضرا..
ليبقى قول الشاعر مسليا لهم مابقي من حياتهم ، كما ارتضت السانية الصمت مقابل تمجيد رحلتها القديمة بعبارةٍ تذكر ماضٍ مضى…
إذا ما انقضى الجيل الذي كنت فيهم
وخلِفتَ في جيلٍ فأنتَ غريب

——-
بقلم د. علي حافظ القرني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى