مقالات

ليلة سَمَر

✍🏼 يوسف الشيخي

تبعثرت أفكاري ذات مساء، فيممت وجهي صوب اليم؛ فقد اعتدتُ الجلوس أمامه لأرمي في أعماقه كلَّ ما يعتريني من هم.
نسيمه، امتداد أُفْقِه، هيجان وجهه، وسكون عمقه. زرقة مائه، تلألؤه، وديمومة صفائه. كل ذلك تكمن خلفه أحاديث العجوز الصامت، تلك الأحاديث التي تعطي الدروس دونما ثرثرة، فتجلو النفس، وتعيد للعقل السيطرة.
كان الفصلُ ربيعًا، والجوُّ بديعًا، فآثر النهار الانسحاب خلسة، وترك الليل شريكًا في الجلسة، متعمِّمًا بعمامته الوضيئة، متحليًّا قلادته المضيئة.
وبين سكون الليل وصمت البحر جلست أترقب في صبر، أحملِقُ في وجه هذا تارة، وأحدق في ملامح الآخر تارة؛ أراقب شفاه الصامِتَين أيهما ينطق بالحديث أوَّلا، غير أنهما التزما الصمت، وآثرا ما كانا عليه من السمت.
وما هو إلا قليل، حتى شارَكَنا السَّمَرَ شيءٌ من النسيم العليل، خدَّر أركاني، وسقا من كأس خَمْرَتِهِ أجفاني، فما أفقتُ من السُكْرِ إلا على صُراخِ البحر، وأنين أمواجِهِ المحطمة على حاجز الصخر؛ تتقدَّمُ الموجة من بعيدٍ في عمْعَمَة، فتصطك بأختها المحطَّمَة، ولا يصل منها إلى الرصيف الصخري إلا بعض أشلاء، يبعثرها بدوره، فيذهب كل ذلك العنفوان هباء.
تأملت طويلًا، فشدني كيف أن تلك الموجات لم تستسلم للانكسار، واستمرت في القدوم دونما انحسار، حتى بعد أن تخور قِواها وتذوب، تجمع ما تشتَّت منها وتؤوب، وتلزم الإصرار على استعادة كبريائها المسلوب. وتخيَّلتُ حينها أمواج حُبِّنا التي تكسرت على حواجز الصدود، وحبال وصلنا التي انقطعت دون أن تبلغ الحدود، تذكَّرتُ أمالنا التي مزقتها الآلام، وأحلامنا التي وُئِدَت قبل أن ترى الوجود. تذكرت كثيرًا، وتخيَّلتُ كثيرًا، وتأمَّلت كثيرًا وكثيرًا، وأطلقت للتساؤل العِنان:
هل نكتفي بما خلَّفته الأيام من حطام؟!
هل نرضى بالهزيمة، ونرفع راية استسلام؟!
هل نلملم ما تبعثر من أشلاء الحُبِّ والوصل والآمال والأحلام، ونُسكِنُه توابيتَ أعماقنا، وندَّعي نسيانه مع الأيام؟!
أم أن أعماقنا ستكون كأعماق ذلك البحر، تغالبُ الصخر، وتولِّد الموجات إثر الموجات، إلى أن يتحوِّل كل ما يقف في طريقها إلى فُتات.
أفقتُ من شتاتي عند الثانية، فخشيت أن تحسبني امرأتي مع الثانية، ولستُ من أولئك النُدرة، ولا لي على النزاع والصراع قدرة، فأخليتُ لليل والبحر المكان، وغادرتُ على عَجَلٍ دونما استئذان، وكلي أملٌ في ليلة سمرٍ أخرى تجمع بين الليل والبحر والإنسان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى