رشقة سهممقالات

حال من خرج من بلدته

✍🏼 أحمد عزير

تبلغ مساحة كوكب الأرض الذي اختاره وارتضاه الله لنا للسكنى من بين كل الكواكب ما يفوق نصف مليار من الكيلومترات بيابسها ومائها، وتجد رجلًا قارب عمره الستين أو السبعين، وهو يراوح في كيلو واحد فقط أو بضعة كيلومترات هي حدوده في مربع لا يريد أن يتجاوزه مطلقًا، ولو قدر له أن ينقل جامعته أو مقر عمله بداخل ذلك المربع لفعل، ولا يبالي ولا يرى إلا تلك الوجوه التي يراها كل يوم في المسجد وحديقة الحي والبقالة التي بجوار منزله إلى آخره، وإذا أذّن وهو في حي آخر تجده قد حلت عليه مصيبة لا يريد إلا أن يصلي في مسجده، وإذا تمت ترقيته إلى منطقة أخرى أحجم وأبى، ويأتي بكل شفيع يشفع له حتى لا ينقل إلى منطقة أو حتى محافظة أخرى، وهكذا تدور الأيام والليالي والسنوات، وهو بهذا الحال وإلى هذا المآل حتى يتوفاه الله تعالى، ولم يمشِ في مناكبها كما أمره الله .
ولو أنه استدبر أمره ما استقبل لنقل من أرضه تلك إلى أرض الله الواسعة، ورأى من سعة الرزق والقبول والراحة والطمأنينة ولجالد عليها بالسيف، ونقل من تلك إلى غيرها وهكذا فالماء الذي لا طعم له ولا رائحة ولا لون قد يفقد خواصه الفيزيائية إن بقي في مكانه، ويقال له حينها ماء”آسن” فالماء الراكد يأسن ويتغير طعمه، لكن إذا جرى وسرى طاب وعذب، وقد قال في ذلك الحكماء والشعراء ما قالوا :
فهذا الإمام الشافعي يقول :

ما في المقام لذي عقل وذي أدب * من راحة فـدع الأوطان واغتـرب

سافر تجـد عوضـًا عمـن تفارقـه * وانصَبْ فإن لذيذ العيش في النصـب

إني رأيـت وقـوف المـاء يفسـده * إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطـب

والأسدُ لولا فراق الأرض ما افترست * والسهم لولا فراق القوس لم يصـب

والشمس لو وقفت في الفلك دائمـة * لملها الناس من عجـم ومـن عـرب

والتبر كالترب ملقـي فـي أماكنـه * والعود في أرضه نوع من الحطـب

فـإن تغـرب هـذا عـز مطلـبُـهُ * وإن تغـرب ذلـك عـزَّ كالـذهـب
ومن فوائد الأسفار والتنقل :
إنه يرفع الذل عن الإنسان إذا كان بين قوم لئام، وإذا عاش في وسط يكيدون به، ويتربصون به، وكان هذا الإنسان ذا شأن فليبحث له عن أرض يعرفون قيمته، وقد ورد عن الشافعي أيضًا حول هذا المعنى: أنه قال:
ارحل بنفسك عن أرض تضام بها * ولا تكن من فراق الأهل في حرق

فالعنبر الخام روث في مواطــنه * وفي التغرب محمول على العنــق

والكحل نوع من الأحجار تنظره * في أرضه وهو مرمي على الطرق

لما تغرب حاز الفضـل أجمـعه * فصار يحمل بين الجفـن والحـدق
قال الشاعر:

وإذا البلاد تغيّرت عن حالها ** فـدع المقـام وبـادر التحويـلا

ليس المقام عليك فرضًا واجبًا ** في بلـدة تـدع العزيـز ذليـلا

وعقد شهاب الدين الأبشيهي في كتابه “المستطرف” في كل فنّ مستظرف فصلًا فيما جاء في الأسفار والاغتراب، وما قيل في الوداع، والفراق والحث على ترك الإقامة بدار الهوان، وحب الوطن، والحنين إليه. فقال: أما ما جاء في الأسفار والحث على ترك الإقامة بدار الهوان: فقد قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) (سورة الملك الآية 15)، وفي الأثر: “سافروا تغنموا”، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “لو يعلم الناس رحمة الله للمسافر؛ لأصبح الناس على ظهر سفر، وهو ميزان الأخلاق إن الله بالمسافر رحيم”. ويُقال: “الحركة ولود، والسكون عاقر”. وقال حكيم: “السفر يسفر عن أخلاق الرجال”.
ومما قيل في ترك الإقامة بدار الهوان قال الفرزدق:

وفي الأرض عن دار القلى متحول … وكل بلاد أوطنتك بلاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى