مقالات

يوم صار الحُبُّ أعمى

بقلم/ يوسف الشيخي
عجوزٌ دامع العين يتغنَّى باسم محبوبته الرَّاحلة بعد أن قضى معها واحدًا وخمسين عامًا؛ إنها خديجته التي رفض أن يرتبط بها لأنها سمراء، غير أن إلحاح أمِّه على ذلك الارتباط أجبره على الموافقة، والرِّضا بالصحبة والمرافقة، لتريه خديجة السمراء من الحبِّ وحسن العشرة ما لم يكن يحلم أن يراه من شقراء دعجاء بيضاء البشرة.
ذكَّرني المشهد بذلك الحبِّ الغابر الطاهر الذي سلَبَ العقول، وأسر القلوب. الحبُّ العذريُّ الصادق الذي لم يخلع قَطُّ ثيابَ حيائه. الحبُّ الذي تَعلَّقَ فيه القلبُ وأبى أن يتوب؛ فصَرَعَ المُحِبَّ وأكْمَدَ المحبوب. الحبُّ الذي حرَّك الأشجان؛ فمالت له القلوب كالأغصان. الحبُّ الذي ذاعت على مَرِّ العصور أخباره، يوم تناقلَ أحاديثَها الرواة، وتسامَرَ بحكاياتها السمَّار، وأُلِّفت فيه الكتب، ونُظِمت فيه الأشعار.
ولستُ هنا لأتحدَّث عن سِيَرِ ذلك الحبِّ، إنما للحديث عن الحُبِّ يومَ أن أُلقيَ في الجُب، وصادف المستهترين الذين استعبدوه وخلعوا عنه قميصَ العِفَّةِ والحياءِ والشرف، فعكَّرُوا باسمه المشارب، واتخذوه جسرًا لبلوغ أقذر المآرب. ردَّدوا اسمه بكل استهتار، وراودوا بلسانه في وضح النهار، وأداروا بعباراته كؤوس الفُحش والعهر من وراء الأستار، وصيَّروه مجرَّدَ كلمةٍ لمن أراد أن يلاطف، بعد أن كان اختزالًا لكل العواطف. دسُّوا له الخبيئة، وقيَّدوه في سجن الإثم والخطيئة؛ فأَسِفَ على مآله، وابيضت عيناه من الحزن على حاله.
حلَّ وثاقه وخرج، لكنه لم يعد يرى، ولم يعد يعرف طريقه الذي عَهِد، بل ضيَّعَ مساراته، وطوٌّح عن مداراته، وتاه في الدروب؛ فقطع على نفسه الوعد بأن يَسِنَّ سهامه، ويُعْلِن انتقامه، ويلعن كل من وقف أمامه.
أعلن حربه، وجرَّدَ حِرَابَه، فما صادَفَت تلك الحِرابُ غير ضعاف القلوب الذين فُتنوا بقول: (أنت دون سواك المحبوب)، وانقادوا وراء عبارات الغزل، دون تمييزٍ بين من جَدَّ في القول ومن هَزَل.
لم يرحم الحبُّ في انتقامه؛ لأنه لا سبيل لأعمى أن يجيد التصويب أو يُدرِك الهدف، فصُرِعَت بحِراب الحب قلوب، وجُرِحَتْ قلوب، وعاشت في الأَسْرِ قلوب. ولن يتوقف الانتقام إلا إذا أدركنا معنى الحُبِّ، وأعدنا للحبِّ شرفه وكبرياءه وحياءه، وعرفنا أنه ليس مجرَّد لوحةٍ نصبغها بألوان ماءٍ ثم تمسحها الدموع.
وصَدَقَت أم كلثوم في كلماتها يوم قالت:
حـب إيه اللي إنت جاي تقول عليه
إنت عارف قبله معنى الحب إيه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى